كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم: أن ما اشتهر عن مالك من أنه يقول: لا يحج أحد عن أحد: معناه عنده: أن الصحيح القادر لا يصح الحج عنه في الفرض. والمغضوب عنده ليس بقادر، وأحرى الميت فالحج عنهما من مالهما لا يلزم عنده إلا بوصية، فإن أوصى به صح من الثلث وتطوع وليه بالحج عنه، خلاف الأولى عنده بل مكروه.
والأفضل عنده أن يجعل ذلك المال الذي يحج به عنه في غير الحج، كأن يتصدق به عنه أو يعتق به عنه ونحو ذلك، فإن أحرم بالحج عنه انعقد إحرامه وصح حجه عنه.
والحاصل: أن النيابة عن الصحيح في الفرض عنده ممنوعة، وفي غير الفرض مكروهة، والعاجز عنده لا فرض عليه أصلًا للحج.
قال خليل بن إسحاق في مختصره: ومنع استنابة صحيح في فرض، وإلا كره. اهـ.
وقال شارحه الخطاب: ويدخل في قول المصنف: وإلا كره بحسب الظاهر ثلاث صور: استنابة الصحيح في النفل، واستنابة العاجز في الفرض، وفي النفل، لَكِن في التحقيق ليس هنا إلا صورتان، لأن العاجز لا فريضة عليه. اهـ.
واعلم: أن بعض المالكية حمل الكراهة المذكورة على التحريم، والأحاديث التي ذكرنا حجة على مالك، ومن وافقه، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه:
اعلم أن ما عليه جمهور العلماء من جواز الحج، عن المعضوب، والميت محله فيما إذا كان الذي يحج عنهما قد حج عن نفسه حجة الإسلام، خلافًا لمن لم يشترط ذلك، واحتج الجمهور القائلون: بأن النائب عن غيره في الحج، لابد أن يكون حج عن نفسه حجة الإسلام بحديث جاء في ذلك.
قال أبو داود في سننه: حدثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني، وهناد بن السري: المعنى واحد، قال إسحاق: ثنا عبدة بن سليمان، عن أبن أبي عروبة، عن قتادة عن عزرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يقول: لبيك عن شُبْرمة قال «من شُبرمة؟» قال: أخ لي، أو قريب لي، قال: «حججت عن نفسك؟» قال: لا، قال: «حج عن نفسك، ثم عن شُبرمة» وقال ابن ماجه في سننه: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، ثنا عَبْدَةُ بن سليمان، عن سعيد، عن قَتَادة، عن عزرة، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يقول: لبيك عن شُبْرمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شبرمة؟» قال: قريب لي، قال: «هل حججت قط؟» قال: لا، قال: «فاجعل هذه عن نفسك، ثم حج عن شبرمة» وإسناد هذا الحديث عن أبي داود وابن ماجه، رجاله كلهم ثقات، معروفون، إلا عزرة الذي رواه عنه قتدة، وقتادة روى عن ثلاثة كلهم اسمه: عزرة، وعزرة المذكور في إسناد هذا الحديث، عند أبي داود، وابن ماجه ذكراه غير منسوب، وجزم البيهقي بأنه عزرة بن يحيى، وعزرة بن يحيى لم يذكره البخاري في التاريخ، ولا ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، ولم يخصه ابن حجر في تهذيب التهذيب بترجمة، ولم يذكره الذهبي في الميزان، وقد ذكره ابن حجر في التقريب، وقال فيه: مقبول، وقد روى هذا الحديث أيضًا: الدارقطني، وابن حبان في صحيحه وروى البيهقي من طريق عبدة بن سليمان الكلابي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: هذا إسناد صحيح، ليس في هذا الباب أصح منه، أخرجه أبو داود في السنن عن إسحاق بن إسماعيل، وهناد بن السري، عن عبدة وقال: يحيى بن معين، أثبت الناس سماعًا، عن سعيد عبدة بن سليمان.
ثم قال: قال الشيخ وكذلك رواه أبو يوسف القاضي، عن سعيد، ثم ساق بإسناده رواية أبي يوسف، وأورد متن الحديث كما سبق، ثم قال: وكذلك روي عن محمد بن عبد الله الأنصاري ومحمد بن بشر، عن ابن أبي عروبة، ورواه عندر عن سعيد بن أبي عروبة موقوفًا على ابن عباس، ومن رواه مرفوعًا حافظ ثقة، فلا يضره خلاف من خالفه، وعزرة هذا: هو عزرة بن يحيى، أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا على الحافظ يقول: ذلك، وقد روى قتادة أيضًا عن عزرة بن تميم، وعن عزرة بن عبد الرحمن. اهـ. من البيهقي، وقد أورد روايات أخر عن ابن عباس تؤيد الحديث المذكور، وذكره ابن حجر في التلخيص وأطال فيه الكلام، وذكر كلام البيهقي في تصحيحه، وكلام من لم يصححه وذكر طرقه ثم قال: ما نصه: فيجتمع من هذا صحة الحديث. اهـ. محل الغرض منه.
وقال النووي في شرح المهذب: وأما حديث ابن عباس في قصة شبمرة فرواه أبو داود، والدارقطني، والبيهقي، وغيرهم بأسانيد صحيحة، ثم ذكر لفظ أبي داود كما قدمنا، ثم قال: وإسناده على شرط مسلم، والظاهر أن النووي يظن أن عزرة المذكور في إسناده هو ابن عبد الرحمن، وذلك من رجال مسلم والواقع خلاف ذلك، وهو عزرة بن يحيى كما جزم به البيهقي، ثم قال النووي: ورواه البيهقي بإسناد صحيح، عن ابن عباس، ثم ذكر بعض ما ذكرنا سابقًا من تصحيح البيهقي للحديث، وأن رفعه أصح من وقفه.
فتحصل من هذا كله: أن الحديث صالح للاحتجاج، وفيه دليل على أن النائب في الحج، لابد أن يكون قد حج عن نفسه. وقاس العلماء: العمرة على الحج في ذلك، وهو قياس ظاهر، والعلم عند الله تعالى.
وخالف في ذلك بعض العلماء كأبي حنيفة ومن وافقه، فقالوا: يصح حج النائب عن غيره، وإن لم يحج عن نفسه، واستدلوا بظواهر الأحاديث التي ذكرناها في الحج عن المعضوب والميت، فإن النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول فيها: «حج عن أبيك، حج عن أمك»، ونحو ذلك من العبارات، ولم يسأل أحدًا منهم هل حج عن نفسه أو لا. وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال كما تقدم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الأظهر تقديم الحديث الخاص الذي فيه قصة شُبْرمة، لأنه لا يتعارض عام وخاص، فلا يحج أحد عن أحد، حتى يحج عن نفسه حجة الإسلام، والعلم عند الله تعالى.
تنبيه:
قد علمت مما مر أن الحج واجب مرة في العمر، وهل ذلك الوجوب على سبيل الفور أو التراخي؟
اختلف أهل العلم في ذلك وسنين هنا إن شاء الله أقوالهم، وحججهم، وما يرجحه الدليل عندنا من ذلك: فممن قال إن وجوبه على التراخي: الشافعي وأصحابه.
قال النووي: وبه قال الأوزاعي، والثوري، ومحمد بن الحسن، ونقله الماوردي عن ابن عباس، وأنس، وجابر، وعطاء، وطاوس، وممن قال إنه على الفور: الإمام أحمد، وأبو يوسف، وجمهور أصحاب أبي حنيفة والمزني. قال النووي: ولا نص في ذلك لأبي حنيفة وقال صاحب تبيين الحقائق في الفقه الحنفي: إن القول بأنه على الفور قول أبي يوسف، وعن أبي حنيفة ما يدل عليه فإن ابن شجاع روى عنه أن الرجل إذا وجد ما يحج به وقد قصد التزوج، قال: يحج، ولا يتزوج، لأن الحج فريضة أوجبها الله على عبده، وهذا يدل على أنه على الفور انتهى.
وأما مذهب مالك فعنه في المسألة قولان مشهوران، كلاهما شهره بعض علماء المالكية.
أحدهما: أنه على الفور، والثاني: أنه على التراخي، ومحل الخلاف المذكور ما لم يحسن الفوات بسبب من أسباب الفوات، فإن خشيه وجب عندهم فورًا اتفاقًا.
قال خليل بن إسحاق في مختصره في الفقه المالكي: وفي فوريته وتراخيه لخوف الفوات خلاف. اهـ.
وقد ذكر في ترجمته أنه إن قال في مختصره: خلاف، فهو يعني بذلك اختلافهم في تشهير القول.
وقال الشيخ المواق في كلامه على قول خليل المذكور ما نصه الجلاب: من لزمه فرض الحج لم يجز له تأخيره، إلا من عذر وفرضه على الفور دون التراخي، والتسويف، وعن ابن عرفة هذا للعراقيين، وعزا لابن محرز والمغاربة وابن العربي، وابن رشد: أنه على التراخي ما لم يخف فواته. وإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة فهذه حججهم.
أما الذين قالوا: إنه على التراخي فاحتجوا بأدلة.
منها: أنهم قالوا: إن الحج فرض عام ست من الهجرة، ولا خلاف أن آية: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ} [البقرة: 196] الآية نزلت عام ست من الهجرة في شأن ما وقع في الحديبية من إحصار المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم محرمون بعمرة، وذلك في ذي القعدة من عام ست بلا خلاف، ويدل عليه ما تقدم في حديث كعب بن عجرة الذي نزل فيه {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وذلك متصل بقوله: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا} الآية، ولذا جزم الشافعي، وغيره: بأن الحج فرض عام ست قالوا: وإذا كان الحج فرض عام ست، وكان النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا عام عشر، فذلك دليل على أنه على التراخي، إذ لو كان على الفور لما أخره عن أول وقت للحج، بعد نزول الآية. قالوا ولاسيما أنه عام ثمان من الهجرة فتح مكة في رمضان، واعتمر عمرة الجعرانة في ذي القعدة من عام ثمان، ثم رجع إلى المدينة، ولم يحج، قالوا: واستخلف عتاب بن أسيد، فأقام للناس الحج سنة ثمان، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيمًا بالمدينة هو وأزواجه وعامة أصحابه، ولم يحجوا، قالوا: ثم غزا غزوة تبوك في عام تسع، وانصرف عنها قبل الحج، فبعث أبا بكر رضي الله تعالى عنه، فأقام للناس الحج سنة تسع، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأزواجه وعامة أصحابه قادرون على الحج، غير مشتغلين بقتال، ولا غيره، ولم يحجوا ثم حج صلى الله عليه وسلم هو وأزواجه كلهم سنة عشر حجة الوداع، قالوا: فتأخيره الحج المذكور إلى سنة عشر، دليل على أن الحج ليس وجوبه على الفور. بل على التراخي.
واستدلوا لذلك أيضًا بما جاء في صحيح مسلم في قصة ضمام بن ثعلبة السعدي رضي الله عنه: حدثني عمرو بن محمد بن بكير الناقد، حدثنا هاشم بن القاسم أبو النضر، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء، الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله، ونحن نسمع. فجاءه رجل من أهل البادية فقال: يا محمد صلى الله عليه وسلم أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك قال «صدق»، قال: فمن خلق السماء؟ قال: «الله»، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: «الله»، قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: «الله»، قال: فبالذي خلق السماء، وخلق الأرض، ونصب هذه الجبال آلله أرسلك؟ قال: «نعم»، قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا، قال: «صدق»، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: «نعم»، قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا، قال: «صدق»، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: «نعم»، قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا، قال: «صدق» قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: «نعم»، قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلًا، قال: «صدق»، ثم ولى قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن، ولا أنقص منهن، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «لئن صدق، ليدخلن الجنة» انتهى من صحيح مسلم، قالوا: هذا الحديث الصحيح جاء فيه وجوب الحج، وقد زعم الواقدي وغيره: أن قدوم الرجل المذكور وهو ضمام بن ثعلبة كان عام خمس، قالوا: وقد رواه شريك بن أبي نمر عن كريب فقال فيه: بعث بنو سعد ضمامًا في رجب سنة خمس، فدل ذلك على أن الحج كان مفروضًا عام خمس، فتأخيره صلى الله عليه وسلم الحج غلى عام عشر دليل على أنه على التراخي، لا على الفور.
ومن أدلتهم على أنه على التراخي: «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أمر المحرمين بالحج أن يفسخوه في عمرة» فدل ذلك على جواز تأخير الحج، وهو دليل على أنه على التراخي.
ومن أدلتهم أيضًا: أَنه إِن أَخر الحج من سنة إلى أخرى، أَو إلى سنين ثم فعله فإنه يسمى مؤديًّا للحج لا قاضيًّا له بالإجماع، قالوا: ولو حرم تأخيره لكان قضاء لا أداء.
ومن أدلتهم على أنه على التراخي: ما هو مقرر في أصول الشافعية: وهو أن المختار عندهم أن الأمر المجرد عن القرأئن، لا يقتضي الفور، وإنما المقصود منه الامتثال المجرد. فوجوب الفور يحتاج إلى دليل خاص زائد على مطلق الأمر.
ومن أدلتهم: أنهم قاسوا الحج على الصلاة الفائتة قالوا: فهي على التراخي، ويقاس الحج عليها، بجامع أن كلا منهما واجب ليس له وقت معين.
ومنها: أنهم قاسوه على قضاء رمضان في كونهما على التراخي، بجامع أن كلبهما واجب، ليس له وقت معين: قالوا: ولَكِن ثبتت آثار: أن قضاء رمضان غاية زمنه مدة السنة، هذا هو حاصل أدلة القائلين: بأن وجوب الحج على التراخي لا على الفور. وأما الذين قالوا إنه على الفور فاحتجوا أيضًا بأدلة، ومنعوا أدلة المخالفين.
فمن أدلتهم على أن وجوب الحج على الفور آيات من كتاب الله تعالى يفهم منها ذلك، وهي على قسمين:
قسم منها: فيه الدلالة على وجوب المبادرة إلى امثتال أوامره جل وعلا، والثناء على من فعل ذلك.
والقسم الثاني: يدل على توبيخ من لم يبادر، وتخويفه من أن يدركه الموت قبل أن يمتثل، لأنه قد يكون اقترب أجله، وهو لا يدري.
أما آيات القسم الأول فكقوله: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] وقوله تعالى: {سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض} [الحديد: 21] الآية، فقوله: {وسارعوا} وقوله: {سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ} فيه الأمر بالمسارعة، والمسابقة إلى مغفرته، وجنته جل وعلا، وذلك بالمبادرة، والمسابقة إلى امتثال أوامره، ولا شك أن المسارعة والمسابقة كلتاهما على الفور، لا التراخي وكقوله: {فاستبقوا الخيرات} [البقرة: 148] الآية، ويدخل فيه الاستباق إلى الامتثال وصيغ الأمر في قوله: {وسارعوا} وقوله: {سابقوا}، وقوله: {فاستبقوا} تدل على الوجوب، لأن الصحيح المقرر في الأصول: أن صيغة أفعل إذا تجردت عن القرأئن، اقتضت الوجوب، وإليه أشار في المراقي بقوله:
وأفعل لدى الأكثر للوجوب

إلخ. وذلك لأن الله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] وقال جل وعلا {وما كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] فصرح جل وعلا، بأن أمره قاطع للاختيار، موجب للامتثال، وقد سمى نبيه موسى عليه، وعلى نبينا الصلاة والسلام مخالفة الأمر معصية، وذلك في قوله: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93] يعني قوله له: {اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} [الأعراف: 142] وإنما قال موسى ذلك لأخيه هارون، قبل أن يعلم حقيقة الحال، فلما علمها قال: {رَبِّ اغفر لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين} [الأعراف: 151] ومما يدل على اقتضاء الأمر الوجوب: أن الله جل وعلا، عنف إبليس، لما خالف الأمر بالسجود، وذلك في قوله: {قال مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] والنصوص بمثل هذا كثيرة، وقد أجمع أهل اللسان العربي: أن السيد لو قال لعبده: اسقني ماء مثلًا، فلم يمتثل أمره فأدبه على ذلك، أن ذلك التأديب واقع موقعه، لأنه عصاه بمخالفة أمره، فلو قال العبد: ليس لك أن تؤدبني، لأن أمرك لي بقولك: اسقني ماء لا يقتضي الوجوب لقال له أهل اللسان: كذبت، بل الصيغة ألزمتك، ولَكِنك عصيت سيدك، فدل ما ذكر على أن الشرع واللغة، دلا على اقتضاء الأمر المجرد الوجوب، وذلك يدل على أن قوله: {سابقوا} [الحديد: 21] وقوله: {وسارعوا} [آل عمران: 133] يدل على وجوب المبادرة إلى امتثال أوامر الله فورًا.